الدستور 2011/1/27
يبدأ العام بشهر كانون الثاني، وهي مفارقة غريبة، فبداية العام تكون بكانون الثاني ونهايته بكانون الأول. لا يهم، فالأرقام علم قائم بذاته، وللتقويم فلسفة خاصة من الصعب تفسيرها في هذا المقام.
كانون الثاني شهر هام بالنسبة لي مثلا، ففيه وُلدت، وكان يقال:” ولدت في كوانين”، أي في أكثر أشهر السنة مطرا وخيرا.هذا كان في زمن مضى، فقد أصبحت الشمس تتحدى “الكانونين”، ويبدو أن ” الكانون” وهو وعاء النارالمنذور للأشهر الأكثر برودة ومطرا قد تقاعد منذ مدة طويلة، وقد يسمى فيما بعد ” الشباط” اذا حنّ علينا الشهر الذي لا رباط له، وأمطرنا بعض الماء.
في هذا الشهر أيضا فقدت أعز الناس الى قلبي قبل أكثر من عقد ونصف، وكلما أتذكر صبيحة ذلك اليوم، تطفر الدمعة من عينيّ، وأعيش لحظات الذكرى بغصة تخنقني الى أن أتذكر كلامها في شهرها الأخير، عندما قالت: ان الحياة أصبحت بلا طعم، وان على الانسان أن يرحل قبل أن تهاجمه الأمراض أو يفقد بعضا من ذاكرته. وقررت الرحيل راضية مرضية، وفقدت الرغبة في الطعام، وعندما استخدمنا كل الوسائل الطبية لثنيها عن قرارها، قالت لنا: أنا حرة.. وهذه حياتي لا بد من الرحيل، مشيرة بيديها أن لكل حياة نهاية.
كم كنّ عظيمات هؤلاء الأمهات اللواتي عشن في الزمن الصعب، يقمن بكل الأعمال، فهن المربيات المرضعات، والممرضات لأطفالهن، والطباخات، والخياطات، والغسالات اليدويات، والمحاسبات اللواتي يحسبن الدخل بالشلن، وهن أحيانا المزارعات اللواتي يدرجن الأزهار والورود المنزلية، ويزرعن فيما تبقى من الأرض الأشجار المثمرة قائلات: ثمر الدار يطول الأعمار، كما يزرعن في علب السمنة الفارغة بالرياحين والأبصال الموسمية. ناهيك عن أحواض النعنع والبقدونس والبصل والعصفر والرشاد، وبعض ” بيوت البندورة” والخس. كن نساء شاملات يعملن في كل شىء، ويدرن شؤون الحياة بما يتيسر، وكان يعجبني قول احداهن عن شطارة النساء ” يلقطن من الغيم ملاحف”
يا لهذا الخيال الشعبي الخصب، خسارة أن لا يُسجّل بعشرات الكتب، وبكل الأساليب.
عندما كانت أمي تمل، مع التقدم في العمر، تقول: “قضّيت عمري وانا اداري بصاحبي، لا صاحبي راضي ولا العمر ماضي”. كنّ يبحثن عن الرضا عند الأبناء والبنات، ويتحسرن من قلة التعليم في زمنهن، فقد كان زمنا لا يحبذ الأهالي أن تتعلم البنات حتى لا يكتبن ” رسائل الغرام” للشباب. لو امتد العمر بهن لشاهدن ان الرسائل الورقية لم تعد ذات قيمة تُذكر، فالزمن الالكتروني لا يحتاج الا الى جهاز وكبسة زر، لتصل الرسالة الى شتى انحاء الأررض.
لهفي على أمي وعلى كل أم تغادر هذه الدنيا وتترك سيرة عطرة، وقصة كفاح، ومحبة للأسرة والأهل والوطن.
وأتا أكتب عن أمي جائني هاتف رحيل والدة الصديق الروائي الراحل مؤنس الرزاز، وقد كنت أكتب فبل دلك أوراقا تخص جائزة ملتقى السرد العربي، دورة مؤنس الرزاز، فحزنت عليه وعليها، وتذكرت كل ما مرت به هذه المناضلة الاستثنائية من صعوبات في حياتها، فهي زوجة مناضل ضحى بحياته من أجل المبادىء القومية التي آمن بها، كانت أم مؤنس تدعم منيف الرزاز في كل مراخل حباتهما المشتركة، عانت كثيرا عندما كان يغيب الأب والزوج في السجن، كما عانت من الظروف الأسرية التي تصاحب حياة المناضلين في تربية الأبناء، وتأثير غياب الأب على نفسياتهم.
ةلن أذيع سرا اذا كتبت أن هناك كتبا ستصدر لتوثيق الرسائل المتبادلة بين أفراد هذه الأسرة المناضلة في مراحل متعددة.
رحمة لأمي ولأم مؤنس وعمر، ولكل من كانت لهم رمزا للصمود والحكمة. وتحية لكل أم عربية عاشت مراحل النضال، والنكسات والنكبات. ولكن الأمل لن يخبو، فها نحن نعيش مرحلة نهوض جديدة قد يُؤتى أُكلها ونحن على هذه الأرض. فعلى هذه الأرض ما يستحق النضال والأمل والحياة.